الوطن يسكن قلب لينا
بقلم: آلاء "محمد منيف" شاهين
هذه القصة حكاية كل فلسطيني لاجئ في الغربة في الماضي والحاضر والمستقبل، ليس لها زمن، لكن لها مكان، ولها أشخاص، ولها أحداث... ولن يكون لها زمن إلا بعودة الحقوق إلا أصحابها..
ما عرفت يوماً أني سأعرفها، أو أني أغدو صديقتها، أو تغدو ساعات حياتي بدونها مستحيلة، تجذبني لها مشاعر شتى، من الحب والحنان والحزن لحالها، بل حتى التعاطف مع قضيتها....
أنهيت دراستي في جامعة بيروت، بتفوق وامتياز، أخيراً وبعد سنوات طويلة من التعب والدراسة غدوت معلمة للغة العربية، كم كانت فرحتي غامرة، فالأيام التي حلمت بها، أوشكت أن تصبح حقيقة أمام عتبات دخولي السلك التعليمي. توجهت إلى مديرية التربية والتعليم وقدمت أوراقي الثبوتية، وانتظرت أياماً تتلوها أيام....
ولم يطل انتظاري حتى وجدت اسمي على قائمة المقبولين في التعليم الابتدائي. راجعت الموظفة المسئولة عن ملفات المعلمين، أعطتني ملفي وقالت لي: مبارك تعيينك.
رددت لها الابتسامة بأخرى اعتقد أنها كانت حقيقية، فتحت الملف، ما وجدت اسم المدرسة سألتها: أين سأدَرِّس؟؟؟ قالت لي: عليك مراجعة مكتب وكالة الغوث للاجئين الفلسطينيين، قُبل ملفك هناك...
- هناك!
ولمعت في ذهني كلمة كنت أخشى أن أنطقها "المخيم".
أكملت كلامها: ليس لدينا شاغر في مدارس الحكومة...
خرجت من عندها ووقفت للحظة كي أراجع كل ما سمعت، كيف؟ أعيّن في مدارس المخيم، يا إلهي وأي مخيم ذاك الذي سيستضيفني....
كانت أمي وحدها من تواسيني، قالت لي: ومن لا يتمنى العمل مع وكالة الغوث لتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، إنها توفر رواتب ممتازة وتمنح تطويراً جيداً للمعلمين. قبلت مجاملتها ودخلت غرفتي، وأمام مكتبي طفقت أرقب ملفي وأفكر...
هذه بداية تعيين أي معلم وعلي القبول بها، وما أدراني لعلي أجد هناك ما كنت أصبو إليه.....ما كانت لدي فرصة أخرى، وأمام إصرار أهلي على قبولي الوظيفة، ذهبت في اليوم التالي إلى مكتب الوكالة في العاصمة وقدمت أوراقي وملفي، وما هي إلا أيام واستدعيت للمقابلة، وعينت بعدها في مخيم بعيد جنوب بيروت، مخيم عين الحلوة....
كان علي أن أحزم أمتعتي خلال يومين، وأستلم مفتاح الشقة من موظف شؤون المعلمين في الوكالة، ودّعت أهلي وأصدقائي وحزمت أمتعتي وأنهيت كل معاملاتي، وأخذت كل كتبي وأوراقي، وفي اليوم الموعود استقليت الحافلة وسافرت إلى حيث أبدأ رحلتي...........
على عتبات المخيم وقفت، قوس كبير يزين شارع المخيم يرحب بالزوار" أهلاً بكم في مخيم الصمود والتحدي مخيم عين الحلوة"
أنا لا أعرف أحدا ًهنا، ولا أعرف حتى أين المدرسة أو الشقة التي سأسكن بها، تذكرت الورقة التي بها هاتف مكتب الوكالة هنا، فتحت هاتفي المحمول وما هي إلا ثوان قليلة وكنت أكلم المسئول في المكتب..كان علي الانتظار ربع ساعة أو أكثر ريثما يحضر ليقلني إلى حيث شقتي...
جالت عيناي في المكان، جو لطيف وشمس دافئة غمرت أركان وجنبات الطريق، طفقت أنظر إلى هذه الحياة الجديدة، تمشيت قليلاً، ما هذا المكان؟ طرق ضيقة، أزقة ترسم خطوطها نحيفة بين البيوت، أطفال صغار يجرون ويلعبون أجسادهم نحيلة وثيابهم بسيطة، يختبئون هنا وهناك خلف باب بيت أو جسم سيارة، نظرت للبيوت، مصنوعة من طين واسمنت، ومغطاة بألواح الألمنيوم الكبيرة، لكنها في بعض أرجاء المخيم أكثر رقياً قليلاً....
- يا آنسة......
واستيقظت من حواري الداخلي لأرى أمامي ...........
- أنا مسئول مكتب الوكالة، أنت المعلمة الجديدة؟
- نعم أنا هي تشرفنا....
وبعد كلمات عادية مصطنعة مشينا معاً في طرق المخيم الوعرة،
- بإذن الله ستكونين سعيدة هنا لا يغرك المكان فأهل المخيم أناس لطيفون ويكرمون الضيف.
نظرت إليه نظرة ساخرة وقلت: ما كنت أتخيل أني سآتي أصلاً هنا............
عرفت موقع المدرسة الابتدائية وبجوارها مكتب شؤون الوكالة والعيادة الصحية، وصلت شقتي، وما إن أغلقت الباب على نفسي حتى غدوت أبكي ولا أدري لماذا؟ ولا حتى متى انتهيت؟؟؟
صباحاً كانت مديرة المدرسة تنتظرني، خرجت مبكرة،
-
يا معلمة، أسعد الله صباحك يا معلمة، أهلاً بك في مخيمنا، الكل يحيي والكل يريد أن يكون لبقاً.. وأنا أرد بكلمات ما أذكرها حتى.
شاهدت صاحب المخبز الذي عرفت لاحقاً أن اسمه أبا طحين، ولما أيقنت أن هذا لم يكن لقباً فكرت كثيراً في السبب الذي يجعل هذا الخباز يسمي ابنه هكذا....
أما بائع الفول والحمص فحدث ولا حرج عن مطعم شعبي يرفد عليه معظم أبناء المخيم الصغار قبل الكبار قالوا لي هذا عم أبو منير وهذا البقال أبو سمير....
وصلت المدرسة لم تكن بعيدة، أمام بوابتها رأيت الصغيرات لكن منظرهن كان أجمل وأرتب من منظر البارحة في أزقة المخيم، دخلت المدرسة وفي الساحة سألت عن مكتب المديرة وهناك قابلتها.
كانت ترتدي نظارة وتحمل في يدها عصا خشبية وترتدي قميصاً أحمر اللون أرعبني، كانت حقاً ناظرة مخيفة، قدمت أوراقي لها، ووقفت أنظر ما ستقول، فما قالت شيئاً، تمتمت بشيء ما سمعته، ثم قالت مممممم
ماذا تعني مممممممم؟؟؟ قلت في نفسي؟؟
- أنت المعلمة الجديدة، أهلاً وسهلاً بك....
قالتها بعبارة رسمية توحي بقوة وغطرسة شديدة.
قدمتني للمعلمات الأخريات وبدأت تسرد لي لوائح القوانين في المدرسة، للحظة شعرت أنها تسرد لي الدستور وأن هذه المدرسة هي ملكها.....
كان نهاري الأول عادياً جداً ومملاً للغاية، حتى قابلتها....
في الصف الثاني الابتدائي، كتبت على السبورة المهترئة العبارة التالية:
مخيم عين الحلوة يقع جنوب بيروت....
طلبت من الطالبات أن يرددن من ورائي، ثم طلبت من كل واحدة منهن أن تقرأ لي العبارة لوحدها، وهكذا من مقعد لآخر، حتى جاء دورها، فما تكلمت
قلت لها: أنت يا حلوة؟ فما تكلمت
قلت لها اقرئي العبارة؟
فما تغير شيء
سألتها: ما اسمك يا صغيرة؟؟ فما تكلمت
لا أعرف كيف خطر ببالي هذا الهاجس المخيف: ألا تتكلم؟؟؟ فماذا تفعل هنا، ألا يجب أن تذهب إلى مدرسة خاصة بها؟؟..
بعد انتهاء الحصة عدت لغرفة المعلمات كنت مرتبكة لا زلت أفكر في الصغيرة،...... وبعد انتهاء الدوام رافقت إحدى المعلمات اللواتي تبين لي أنها تسكن جوار شقتي، ويا للصدفة رأيت الصغيرة مرة أخرى أمام بوابة المدرسة سألت زميلتي: هذه الصغيرة ألا تتكلم؟
فأجابتني: بلى، إنها لينا من الصف الثاني الابتدائي تسكن مع والدتها وأختها الصغرى وجدتها، بيتها قريب من هنا، لكنها دائمة الانطواء والعزلة ولا تتكلم إلا لو اضطررتها لذلك......
ما ذهب وجه الصغيرة من ذاكرتي، أذكر صفاء عينيها وبراءتهما، كيف تحدقان بالأشياء تزرعان حباً في قلوب الأصدقاء وخوفاً في قلوب الأعداء.
عصر ذلك اليوم شاهدت الصغيرة لينا تلعب في الزقاق المجاور لنافذة غرفتي، راقبتها وراقبت جمال لعبها وبراءتها، حتى لمحتني فأخفضت رأسها واختفت من أمام ناظري........
مرت الأيام عادية في الأسبوع الأول، وأنا كل يوم أحاول اكتشاف المزيد من الغموض الذي يلف حياة هذه الصغيرة، علمت من آذنة المدرسة كثيراً عن لينا، توفي والدها قبل 3 سنوات، كان يحاول زرع كلية جديدة ولكن مصاريف العملية كبيرة فما تحملت العائلة الصغيرة ذلك ولا وجدت من يعينها.... أما جدتها فهي ممن هجّر من فلسطين عام 1948، من صفد، وكان والد لينا وقتها في الخامسة من عمره، جاؤوا إلى جنوب لبنان ثم بقيت تزحف العائلة مع من زحفوا حتى وصلوا إلى عين الحلوة....
أما والدة لينا فهي ولدت في المخيم من والدين فلسطينيين هجّروا عام 48 من حيفا، ولجئوا أيضاً مع من لجئوا إلى عين الحلوة....
كم هي كثيرة هذه المعلومات التي عرفتها في أسبوعي الأول، وكم أصبحت قضية اللاجئين محط اهتمامي بعد أن كنت لا أطيق ذكر اسم المخيم......
في مكتبة المدرسة مراجع كثيرة تحكي حكايات مريعة لبشر كانوا يعيشون في وطن، واليوم تجد الوطن يسكن في قلوبهم وعقولهم، يورثون حبه لأبنائهم وأبناء أبنائهم........
أنهيت دوامي في المدرسة ومساء ذلك اليوم عزمني أهل الحي على حفلة مسائية لإحياء التراث الفلسطيني، تعجبت من كلامهم، كم هي فلسطين غالية، تسكن عقولهم وقلوبهم، أجيال جديدة ولدت في المنفى بعيدة، لكن كم هي قريبة فلسطين من قلوبهم.
في ساحة مدرسة الأولاد الابتدائية، جلس أهل المخيم، على المقاعد المخصصة وتوالت العروض المسرحية، كانت لينا معهم، كانت تغني مع الفتيات:
هدّي يا بحر هدّي، طوّلنا في غيبتنا.. ودّي سلامي ودّي للأرض اللي ربّتنا...
ما أجمل كلماتهم وأجمل حركاتهم! أما لباسهم، فقد ارتدوا اللباس الفلسطيني الجميل، العباءة الطويلة المزخرفة بالنقوش والألوان، كل لون ونقش يروي حكاية الطرز الفلسطينية للأشجار والأزهار والطبيعة هناك.......
أسابيع مرت والأطفال يؤدون امتحاناتهم، لكن الصغيرة لينا، لم تكن بينهم، بدأت تتغيب عن المدرسة كثيراً
اليوم الأول فالثاني وأنا أحاول أن اعرف سبب غيابها، وأعلل نفسي بالصبر ستأتي غداً أو بعد غد، لكنها ما أتت..
عرفت عنوان بيتها، وقررت زيارتها،
وقفت أمام الباب الحديدي الصدأ، ترددت ثوان، ثم طرقت الباب عدة طرقات تتالت قبل أن أسمع صوتاً قادماً من خلف الباب: من بالباب؟
وهمستُ ثم علا صوتي: أنا معلمة لينا، جئت أطمأن عليها...
والتقت عيناي بعينيها
- لينا، أين كنت؟؟ أنت بخير؟؟
- فتحت الباب، وركضت تنادي أمها، يمّا يمّا
جاءت أمها، أهلاً بالمعلمة تشرفنا يزيارتك، خطوتك عزيزة علينا، تفضلي تفضلي...
مشت أمامي تريني الطريق.......ساحة صغيرة منتشرة بها بعض الأزهار والنباتات المنزلية الجميلة التي زينت حواري الدار، وغرف على جانبي الساحة مغطاة بألواح الألمنيوم الكبيرة.
قلت لها: سأجلس هنا لا بأس لا تتعبي نفسك، أنا جئت من غير موعد.
- ما هذا الكلام؟ زيارتك عزيزة علينا تفضلي تفضلي...
أحضرت الكراسي وجلسنا..
جلست لينا قرب أمها قلت لها: لقد قلقت عليك كيف أنت؟ ما أجابتني بل اختفت خلف أمها،
- جدتها مريضة جداً إنها تحتضر ولينا أصرّت أن تبقى في البيت معها،
قفزت الصغيرة وقالت:
- جدتي كانت تحكي لي حكايتها، كان يجب أن تسمعيها.......
- أنت تتقنين الكلام إذن؟
واختفت مرة أخرى مبتسمة خلف أمها........ والوجه الأحمر والوجنتين القرمزيتين ترويان أعظم براءة عرفها عالم الطفولة.......
ذهبت أمها لتحضر العصير........وكانت هي ترقبني من باب المطبخ........
ذهبت ثم عادت وقالت لي بسرعة: معلمة تعالي إن جدتي تحكي حكايتها من جديد أمسكت بيدي وجذبتني سريعاً
دخلت غرفة جدتها
شعر أبيض ووجه خط فيه الزمن نوائبه، اقتربت أكثر لأسمع همسها، كانت تنظر حيث لا أعرف وترى أشياء أنا ما رأيتها، قالت:
"قبل سنين كثيرة كان إلنا ارض وكان عنا ديار، وبيت أبوي أحسن بيوت البلد، والأراضي المز
بالزيتون والتفاح واللوز، كنا أسياد البلد، كل موسم زيتون نروح نلقط ونعمل زيتون ونعصر زيت، والله وكنا نلقط اللوز بموسمه ولما ييجي فصل الربيع وتمتلي الأرض باللون الأخضر، نقعد بهالبراري ونحكي الحداويت، ونسهر لنص الليل ونسمع حديث السمار، والأولاد الصغار يطيروا طياراتهم،"
- انتظري يا معلمة الآن ستحكي لك حكايتها مع جدي...
وجلست قربها لمست يدها الخشنة، الزمن الصعب المهترئ ظلمها..........
- "ولما تزوجت ورحت لبيت زوجي، كانت العالم كلها تحلف بعرسنا، ما بقي حد من البلاد والعباد إلا وإجا عندنا، ولما جبت ابني الكبير ما بقيت بنت ولا مرا ما اجت وهنت، وعملنا مولد وعزمنا الناس والجيران وووزعنا الحلاوة وعملنا المهلبيّة وغنينا على دلعونة ويا ظريف الطول ويا حلالي ويا مالي
يتبع.....
منقول