ليتنا نبقى صغاراً
تراخى نبيل واستسلمَ لهباتٍ من النسيمِ العليل
راحتْ تداعبُ روحه برقتها وعذوبتها .
كان يجلسُ تحت سنديانةٍ عتيقةٍ تربطه بها
أواصرُ محبةٍ وصداقةٍ قديمةٍ .
وفجأةً بدأت الذكرياتُ تنقرُ بأناملِها الخفيةِ
على بابِ مخدعِ عقلِه الباطني تحفِّزُه على التنبُّهِ والإستيقاظ .
وراح شريطُ الصور والذكريات يمرُّ
أمام ناظريهِ بطيئاً متهادياً وكأنه يدعوه
للتوقفِ عند كلِّ ما يُثيرُ اهتمامه ويُشغلُ نفسهُ .
وفجأةً توقف به الشريطُ عند مرحلةٍ من الفتوةِ الأولى
كان فيها طيباً ووديعاً يحملُ في قرارةِ
نفسهِ أحلاماً وأمنياتٍ ورديةً زاهية .
كان يطفحُ قلبه بمحبةِ الناسِ والغيرةِ على مصالحهم
وتقديم كلِّ عونٍ ومساعدةٍ لأيٍّ كان .
لم تكن روحه تختلجُ إلاَّ بالخيرِ والمثلِ الإنسانيةِ الساميةِ ...
وكان يذهلُ ويستغربُ من عالمِ الكبارِ
كيف تتقاذفهم أعاصيرُ البغضاءِ والكراهيةِ ،
فيتطاحنون على مكاسبَ ماديةٍ كم كان يراها سخيفةً وتافهةً ...
وكم كان يحقدُ على ذلك العالم لما يراه فيه من شرٍّ
وآثامٍ ومفاسد .
وكم كان يتمنى لو يكبرُ بسرعةٍ ليصبحَ قادراً
على أن يفعلَ ويؤثرَ في ذلك العالم فيُصلحه ويغيِّرُه وينقيهِ .
وراح شريط الذكريات يدورُ من جديد
بطيئاً يُريه كيف أخذت العواصفُ والأعاصيرُ
تهبُّ عليه تحاولُ أن تقتلعه من جذورِه ،
أعاصيرُ الكبارِ وشرورهم ،
شهواتهم التي لا تشبعُ وجشعهم الذي لا يرتوي .
وبدأ الصراعُ القاتلُ في نفسِه ،
كيف يحافظُ على نقاءِ وطهارةِ الطفولةِ فيه
في هذا الخِضمِّ الأهوج المتلاطم من الحاجيات والمتطلبات
التي تنوءُ بثقلها على روحه الوديعة .
وحافظَ نبيلُ على أصالةِ نفسِه وعلى جذورِه
المتشعبةِ والمتأصلة في الخيرِ ومحبةِ الإنسان .
ويدورُ الشريطُ ونبيلُ يتأملُ بمرارةٍ وألم وبفرحٍ وغبطة .
بمرارةٍ وألم لأنه عجزَ عن تغيير العالم ِ حولهُ ،
كان كل شيءٍ أقوى منه ، فقد ترسَّخَ الشرُّ في ترابِ هذا العالمِ،
عالمِ الكبار ، وأصبحَ فلسفةً ومذهباً،
لهما دعاةٌ ومروِّجون وأساتذةٌ مدافعون .
وبفرحٍ وغبطةٍ لأنه استطاعَ أن يحافظَ
على صفاءِ روحهِ وأن يوجِّهَ سفينةَ حياتِه
نحو الشطآنِ الآمنةِ رغم كلِّ الأنواءِ والعواصف ....
وما يعزيهِ ويواسي قلبَه الجريحَ ما كان يلاقيه
في طريقِه من ورودٍ وأزاهير كانت أسمى غاياتِها
ومثار فرحتِها أن تفوحَ بعبقِها لتملأ أجواء الأرضِ
بأزكى الروائحِ دون أيِّ مطلبٍ أو أجر .
واكتشف في محصلةِ حياتِه أن للروح النقيةِ
فرحاً ولذةً يفوقانِ كلَّ مباهج وملذاتِ الجسد .
وتيقنَ أن مباهجَ الروح ، بثمارِها وأزهارِها ،
هي الأبقى والأخلد وما تبقى من سواها فسرعان ما يزولُ ويذبلُ ....
وأخيراً أصبح يُشفقُ على الكبار ويتمنى لو يداوي أمراضهم ...
فهم جاهلون أعمتْ عيونَهم سفاسفُ الدنيا
وأغلقتْ على بصائرِهم بتلبُّدِ الحسِّ والعقلِ فأصبحوا عبيداً
في زنزاناتِ شهواتهم ونزواتهم ..
وتمنى أخيراً لو يصيغُ من دموعِ قلبِه وروحِه
سياجاً يحمي به صغارَ العالمِ من شرورِ وتوحُّشِ الكبارِ
ويساعدهم ليكبروا ويحافظوا على الطفولةِ في قلوبهم وأرواحهم .
حكمت نايف خولي / من قبلي / أنا كاتبها